
بَهْنْكَةُ
عائشة أحمد منصور الرّياميّ \ مساق الكتابة في اللغة العربية

عائشة أحمد منصور الرّياميّ
سحبني النّومُ إلى عرشهِ إذ إنّ السّريرَ لطالما كان صديقًا عظيمًا عندَ الهزائمِ، بعد أن أوسعني هذا الامتحانُ درسًا مزّقَ ما تبقّى من ثباتي، وبعد أن لوّحتُ هاربةً من درجاتي عدتُ أدراجي نحو عالمٍ آخرٍ قريبٍ من أحلامي. لأبدأَ رسمَ حياةٍ أخرى مليئةٍ بالنّجاحِ بعيدًا عنكِ أيّتها المادّةُ المزعجةُ! ففي حلمي مزقتكِ بروعةِ نجاحي وثباتِ قدراتي، والآن تُرْسَمُ على وجهي ابتسامةُ انتصارٍ، وبيدي ألوّح بورقةِ امتحاني المليئةِ باللونِ الأخضرِ، وهمزةُ الألف معلّقةٌ أوّلَ الصّفحةِ تثبتُ نجاحي وبجدارتي.
سلامة: لقد رأيتُ نفسي...! نعم إنّها أنا جالسةُ أمامَ نهرٍ صافٍ بابتسامةٍ قدْ رُسِمتْ حتّى نهايةِ شفتَيّ، نعم إنّني أرى عالمي، هذا هو ما اتحدّثُ عنهُ: نومٌ هنيءٌ، وأحلامٌ سعيدةٌ.
- وسطَ انسجامِ سلامة برائحةِ العشبِ الأخضرِ، وتمايلِ الأشجارِ من حولِها صدرِ صوتُ خشخشةٍ من ورائها .وكأنّ لصًّا يحاولُ الاقترابَ منها
...سلامة: مَن أنت؟ مَن هنا؟ اخرجْ في الحالِ وإلّا
...بَهْنَكة: مهلًا... مهلًا إنّها أنا
.سلامة: ومنْ أنتِ؟ لا تبدين بخير على الإطلاقِ فجسدُك مليءٌ بالجروحِ، وذراعكِ تنزفُ، أشعرُ بالخوفِ
بَهْنَكة: لماذا أصابَكِ الذّهولُ يا سلامة؟ إنّها أنا، مادّةُ اللغةِ العربيّةِ الّتي أحرقتِ سفنَها، وتجاهلتِ وجودَها، توقّفي عن النّظرِ إليّ وكأنّني شبحٌ مخيفٌ، فأنتِ السّببُ في وصولي إلى هذه المرحلةِ، لطالما تجاهلْتِ اللغةَ العربيّةَ وفضّلتِ الموادَّ الأخرى عليّ، هذه هي نتيجة إهمالِكِ، انظري إليّ جيّدًا، كُلّ هذه الجروحِ الحمراءِ الّتي .نُقِشَت في جسدي هي بسببك. بالنّسبةِ لي لستُ مخيفة على الإطلاق، واسمي بَهْنَكة
صرخت سلامةُ بتهكُّمٍ وسخريّةٍ قائلةً: حاولتُ كثيرًا صَدّقيني، ولكنّني لا أحبّ هذه اللغةَ، بل وأفضّلُ التّحدّثَ باللغةِ الإنجليزيّةِ. من يحتاجُ العربيّةَ في هذا الزّمنِ؟ وجودكِ لا فائدة منه غير إنقاصِ درجاتي، وهذا كلّه بسببِكِ أنتِ
...تأخذ بَهْنَكةُ بيدِ سلامة، وتقفزُ باتّجاهِ البركةِ الّتي أخذتهما في دوّامةٍ سوداءَ نحو عالم آخر
بَهْنَكة: انظري حولكِ إنّهُ عالمٌ آخرٌ مختلفٌ تمامًا، لقد اختفَتِ اللغةُ العربيّةُ هنا وتلاشَت أنغامي وتبدّدَت أحرفي، وباتت أرواحُ النّاسِ باهتةً بعدَ أن غابَ الإرثُ العميقُ وجفّت ينابيعُ الثّقافةِ، لم يعدِ الإسلامُ معروفًا وهجرت صحفُ القرآن. لا وجود للغةٍ حيّةٍ هنا لتنادي العقولَ.
تلتفت سلامة حولها بتوتّرٍ واستغرابٍ؛ فالأماكنُ أصبحت دامسةً، وسادت الغربةُ من حولِها، والأكثرُ مرارةً هو اختفاءُ الماضي، وتلاشي الذكرياتِ، ثمّ تغضُّ بصرَها عن ذلك الطّفلِ الصّغيرِ وهو يترنّحُ بخطواتٍ مثقلةٍ وكأنّهُ تائهٌ يبحثُ بعينيه عن حنانٍ وأمانٍ فقط، وسطَ تفاقمِ الصّراعاتِ وانقسامِ الشّعوبِ، حاولت سلامةُ قدر المستطاعٍ تجاهلَ كلِّ ما يحدثُ حولَها إلى أن وجدت أسرتها حتّى باتت تعدو تجاهَهم بحثًا عن الطّمأنينَة، ولكنْ مَن يستطيعُ فهمَها؟ لا يتحدّثُ أحدٌ هنا اللغةَ العربيّةَ، أصبحَتِ الأحرفُ العربيّةُ مجردَ هوامشَ والتّواصلُ انقرضَ، وباتَت سلامةُ تحاولُ محاورتَهم بجدٍّ حتّى أصبحت دموعُها تتساقطُ من الخوفِ... أخذت بَهْنَكةُ بيد سلامةَ مجدّدًا حتّى تحوّلَ المكانُ فجأةً إلى دوّامةٍ أُخرى بعيدةٍ، ولكنها وجدَت الأرواحَ تتراقصُ من حولِها، وحروفُ اللغةِ العربيّةِ تتمايلُ بخفّةٍ بجوارِها كأوراقِ الزّهورِ في فصلِ الرّبيعِ بينما امتلأَ الجوُّ بالإبداعِ والأحاسيسِ، أخذَت بَهْنَكةُ تنسجُ قصصَ الحبِّ والفرحِ بتألّقِ الثّقافةِ العربيّةِ؛ لتُعلّقَها فوقَ الغيومِ لتضيءَ دربَ المعرفةِ والتّواصلِ حولَ العالمِ. باتَت حروفُ القرآنِ مُعْروفَةً، وأصبحَت الأرواحُ تترنّمُ بترتيلهِ، عاد الطّفلُ إلى موطنه، وهبّت سلامةُ إلى حضنِ عائلتِها مجدّدًا
...سلامة: أحبُّكِ يا أمّي، اشتقْتُ إليكِ
والدةُ سلامة: سلامة... يا سلامة... استيقظي يا سلاااممم... ما بكِ يا ابنتي إنّه يومُ الامتحانِ. لا أعتقدُ
بأنّكِ تفضّلين التّأخّرَ والذّهابَ مع أخيكِ
سلامة: ما.. ماذا.؟
بِحَذَرٍ شديدٍ وخطواتٍ متردّدةٍ تذهبُ سلامةُ للتّأكّدِ من الوقتِ والتّاريخِ وهيَ تمسحُ جبينَها المتعرّقَ وتتنهدُ طويلاً
سلامة: إنّه يومُ الامتحانِ، امتحانِ اللغةِ العربيّةِ لم يَفُتِ الأوانُ بعد، لديَّ متّسعٌ منَ الوقتِ يجبُ عليَّ أن أنقذَ نفسي من هذا الضّياعِ. إنّها لغتُنا الحبيبةُ، لغتُنا التي احتضنَت الشّعراءَ، والأدباءَ، وعبقَ التّاريخِ وتراثَنا العريقَ. وهي تحملُ وسطَ كفّيها حَكَايا الإنسانِ، وعبقَ الوجدانِ.. بعدَ أن أشرقَت الشّمسُ معلنةً عن بدايةِ يومٍ جديدٍ، وفرصٍ متجدّدةٍ... ترررررننننن !!
سلامة: آه. لقد رنَّ الجرسُ، إنّهُ وقتُ الامتحانِ، إنّهُ وقتي كي أُشرِقَ أنا أيضًا، وأتصالحَ مع لغتي الحبيبةِ.
(بدأَ الامتحانُ، رجاءً االتزموا بالهدوءِ)
وسطَ ارتعاشِ الأيادي، وتسارُعِ نبضاتِ القلوبِ في قاعةِ الامتحانِ يسودُ التّوتّرُ، وتتعالى أصواتُ زفيرِ الأنفاسِ، وتتسلّلُ أصواتُ الدّقائقِ (تيك... توك... تيك) والكلُّ في قلقٍ مهيبٍ... برفقٍ وتأنٍّ ويدٍ مرتعشةٍ تفتتحُ
:سلامةُ ورقةَ الأسئلةِ و تقرأُ السّؤالَ الأوّلَ
السّؤال: بعدَ أن قمْتَ عزيزي الطّالبُ بقراءةِ الفقرةِ المذكورةِ أعلاه، عَرِّف مَعنى اسم ( بَهْنَكة):
بابتسامةٍ عريضةٍ تعلو وجهَ سلامةَ، وشعورٍ بالرّضى يتغلغل ليملأ بدنَها، بدأَت تخطّ بثقةٍ حاملةً القلمَ بيدِها الرّقيقةِ لتفتتحَ جوابَها بجملةِ:
هو اسمٌ يدلُّ على الجمالِ والبهاءِ، الانسجامِ، والتّواصلِ، هو اسمٌ مرتبطٌ بالجمالِ والسّحرِ الجذّابِ، هو اسمٌ يشرّفُني أن أطلقَ عليهِ اسمَ صديقتي "اللغة العربيّة" لغتَنا الخلّابةَ الموجزةَ المعجزةَ (بَهْنَكة).
ZU Times | حكايات زايد